حين جاء يوم الحساب، وسيق جمعٌ إلى الجنة زمراً وإلى النار زمراً، وقف اثنان لا تبدو على ملامحهما أية علامة دالة، ففي ذلك الجمع تسقط الميّزات، وتتماهى خطوط الوجه حتى كأن الوجه لا وجه له، ولم يتحدّثا، بل طال انتظارهما ولا صوت غير صياح يعلو تارة، وفرح يغمره تارة أخرى يملأ الأجواء كلمّا فُتحت بوّابات كبيرة يفصلهما ما يفصل المشرق عن المغرب.
نُصبت خلف الرجلين شاشتا عرض شديدتا الدقّة والوضح، بألوان صافية لا شية فيها، وبدأتا بعرض رحلتيهما في الحياة منذ نشوء المضغة بعد العلقة، حتى تفاصيل الاحتفال بهما في يوم ميلادهما الأول. كانت المشاهد تُعرض بشكل سريع، لكنها تعود للسرعة الطبيعية كلّما وقع منهما في الحياة ما يستحق التوقّف عنده. الرجل الأول مرّت مشاهد حياته سريعة حتى بلوغه الخامسة من عمره، حيث ظهر في مشهد كيف كان يسترق النظر إلى النساء من الزائرات بيتهم، ثم يُختم ذلك المشهد بجملة “معفيٌّ عنه لعدم التكليف”. وتمضي بعدها المشاهد سريعة، وتتوقف حين يبلغ السابعة، حيث يتم توثيق ممارسات من الكذب والعصيان وغيرها. الرجل الثاني الواقف بجانبه مرّت مشاهد حياته متعثّرة منذ بداية عامه الثاني، بعد أن تبوّل على كتب دينية كانت موجودة قرب مهده، وأيضاً كانت من الأفعال الساقطة من الحساب. ثم تعود المشاهد بالتباطؤ لمّا تجرّع أول كأس خمر حين بلغ العاشرة، وتلتها محطات كشفت أمام الجمع ما يقوم به المراهقون في سني حياتهم المعقدّة والمغامرة والمجنونة. تحرّكت ملامح الرجلين قليلاً، خاصة بعد أن كُشفت مشاهد لم يكن يعلم بها أحد، وتجاوزات لم يظن الأهل أنّها ستصدر عنهما، وبدأت عبارة “الإعفاء” تُرفع عن تلك المشاهد، وأخذ ميزانهما يصعد ساعة وينزل أخرى، فيظن أحدهما أنه ناجٍ، ثم يخيب ظنه حين تفضحه قصص جديدة يراها الجمع المهيب من ورائهم بألوان دقيقة وصوت نقي. لاحظا بعد وقتٍ أن الميزان تحركه الأفعال التي تؤثر في الآخرين أكثر من تلك الأفعال التي تؤثر على الفرد نفسه. وهذا الأمر أدخل الرجلين في مرحلة بحث سريعة بين قسمات الوجوه المحدقة بهما؛ إن كانا قد أقدما على فعل فيه إساءة مسّت المجتمع، أو حديث مسّ عشيرة، أو كلمات نالت من عرض آخرين، وبينما هما كذلك، كانت شاشتا العرض تتسارعان باللون والصوت الهادر تكشف عن أحداث قاما بها، أحداثٌ مخجلة، رهيبة، فاضحة، حقيرة، وضيعة، خسيسة، طيبة، حسنة، متطرفة، ساقطة، معتدلة، معتدلة، جيدة، حسنة، معتدلة، فاضحة، رهيبة، طيبة، معتدلة، متطرفة، متطرفة، متطرفة… كان الميزان يهتز طلوعاً ونزولاً لرجل ومستمراً بالنزول عند آخر، بينما كشفت الشاشتان قبيل أن ينتهي معهما الحساب مشهدين توقّف عندهما الجمع طويلاً، حيث ظهر أحدهما يشرب خمراً، وظهر الآخر الذي بجانبه ضارباً على رأسه ووجهه، متنقّلاً بين الطين ساعة والمياه الراكدة ساعة أخرى، ضمن رقص إيقاعي يسميه “إحياء شعائر دينية”. تحرّك الميزان مرة أخرى، طلوعاً ونزولاً، وفتحت البوّابتان الكبيرتان على طرفي الأفق، فمشا الرجلان دون أن أعرف شخصياً لمن فُتحتْ بوابة الجنة، ولمن كانت بوابة النار!
Leave a reply